أخبار عربية وعالمية

صحوة شعب و غزو الربيع للكاتبة فاطمة حفيظ بمناسبة ذكرى الخامس من تموز لاستقلال الجزائر

و مثل الكثير من أجزاء الوطن العربي، لم يكن كل شيء على ما يرام أبدا…، لقد كان مصير كل شيء يتهاوى و يسقط أمام أعيننا، و كنا لا نستطيع رؤية معالم بلدنا بوضوح،…الكثير من فئات الشعب الجزائري تعاني و تتحمل مشقة يوميات الحياة المعيشية الصعبة ؛ عدد ضخم من خريجي الجامعات بدون وظائف، و عدد أخر ينتظر فصل الربيع كي تصبح مياه البحر الأبيض المتوسط هادئة و دافئة كي يشق طريقه بقاربه الصغير، متجها إلى احد الدول الاروبية كمهاجر غير شرعي، …في بعض الأحيان، كان يلتهمهم البحر و يعود ببقاياهم إلى الشواطئ،…لقد أدى البؤس و الإحباط إلى جعل شبابنا ينتحر بهذه الطريقة البشعة التي تتمزق على إثرها العيون و الأكباد ،…كانت الجزائر فعلا تستغيث و تطلب النجدة من شعبها ، فاغلب القطاعات تعاني و تقتات على عائدات اقتصاد الريع المنهوبة، مما جعل الحالة الاقتصادية للبلد تسير في طريق التدهور المتواصل.

لم يستطع الشعب الجزائري فهم الكثير مما يحصل داخل حكومته المنغلقة على نفسها، و رئيس دولته الذي أنهكه المرض، و جعله يعيش لفترات في غرف المستشفيات السويسرية ، منذ سنوات ، لم يشهد له الشعب عملا ميدانيا قد اشرف عليه بنفسه، كما أننا لم نحظى حتى بسماع عبارة منه ،…لا بل كلمة تخاطب عقولنا المحتارة حول مصير وطننا. كان جميع الجزائريين يتساءلون حول الغموض الذي يلف هذا النظام الحاكم،…فلم تكن لدينا فكرة جلية عمن يقرر ،يحكم، و يسير شؤوننا الداخلية و الخارجية، وبالرغم من ذلك، كشف حزب جبهة التحرير الوطني عن نوايا رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة و رغبته في الترشح لولاية رئاسية خامسة …لقد كنا نتساءل باستمرار….
لقد بلغ الشعب الجزائري من الوعي عتيا، و كان يلتف حول بعضه البعض للحصول على إجابة تزيل أوجاع الضمير الوطني ، و حتى أولئك اللذين كانوا يعيشون بالوطن المغترب ، أرسلوا إلى هذا الوطن مقالا من المخاوف حول مصير الوطن بنكهة نوستالجيا الروح الجزائرية ، التي تتوق حنينا و شوقا إلى هذه الأرض المقدسة.
في ذلك اليوم، يوم الجمعة ، الثاني و العشرون من شهر شباط/ فبراير عام ألفين و تسعة عشر، و هو اليوم الثالث و الخمسون من السنة وفقا للتقويم الميلادي الغريغوري، …الذي يبقى بعده أكثر من ثلاثمائة يوم على انتهاء السنة…، قرر جزء كبير من الشعب الجزائري التدفق إلى الشارع و الساحات العمومية بعد صلاة الجمعة ، تعبيرا عن رفضهم لترشح الرئيس الجزائري لولاية رئاسية خامسة، لقد كانت تشبه الثورة التحريرية الكبرى بشكلها الفكري ، فلقد انتشرت المسيرات بكل منطقة من التراب الجزائري ، كنا كرجل واحد ، كامرأة واحدة ، كطفل واحد، صوتا واحدا ضد الظلم، الإبهام و التمويه، ، كان الوعي و الحب يجمع نبضات قلبي الامازيغي و العربي ، كل الشعب حضن بعضه البعض و ارتدى العلم الوطني ، و لقد وضع كل مواطن جزائري مستقبل الجزائر نصب عينيه الممتلئتين بالحرية و الشجاعة…
كانوا يسيرون رافعين اللافتات و الشعارات التي طبعت بالوعي قبل الحبر، ” لا للعهدة الخامسة” ، ” لا نريد وجوه هذا النظام” ، ” ارحلوا” ، و غيرها من الشعارات الرافضة لحكم غامض و مستبد يعج بالعصابات السياسية و الاقتصادية، فحتى الأحزاب المعارضة و بقية المسؤولين بالمؤسسات السياسية كانوا ينصهرون انصهارا تاما داخل النظام و يساعدونه على البقاء…
كان يوما عظيما و مشرقا على الجزائر، حيث خرج الآلاف من الشعب الجزائري، و تكونت تركيبتهم من طفل، شاب، و عجوز، و تشابكت أيادي أهل الشمال و أهل الجنوب الجزائري، رغم تلك الهمسات الداعية إلى التشتت و التفرقة الجهوية و القومية ، كان كل هذا في قالب سلمي و متحضر للغاية، …و لم يكن لمفهومي الأذى و الإساءة أي وجود،…لم يفكر احد بأن يمسس أي جزائري آخر،لا شجرة ، لا سيارة، و لا بناية ، و لم يضرم النار بعجلات الشاحنات و يقطع الطرقات ، و لم يتسبب بخسائر مادية تخص الممتلكات الوطنية و الخاصة ،…كانت خطوات عقله ثابتة و حذره تماما كخطوات قدميه التي تسير محدثة صوتا ينبعث من رقيه الفكري الوطني…
كانوا يهتفون بصوت جماعي حتى يتسرب إليهم العطش و التعب، فيقدمون المياه الباردة لبعضهم البعض كي تخلق الحياة بحناجرهم و تصيح مجددا ،ثم يجعلون السماء تمتلئ بأنباء هذا الشعب العظيم ، و هم يمتطون صهوة العقل و الأصالة ، و يصبغون السماء بالحرية و الأمل ، تماما كما صبغت دماء الشهداء الأفق بشكل ابدي…
انتهى هذا اليوم، و بدأت رحلة الجزائريين في دروب الإيمان بأن وحدة الشعب و قوته ستفوز في خضم هذا الصراع، الذي لا يجب أن يؤذي الشعب و محتواه المقدس،…إنهم يعلمون تمام المعرفة ، بأن الحكومة ستقاومهم ، ستحاول تشتيت صفوفهم ، و ستبرر غايتها كل الوسائل لإجهاض أمل الشعب و مساعيه،…
لقد اشتروا بعض رجال الإعلام السمعي و البصري و ثلة من المخربين كي يقضوا على أمال الشعب و أحلامه النبيلة ، …أرادوا تطويق الفكر الحضاري و تغليفه بالأكاذيب و التهم الجائرة، إنهم يصورون فئة مأجورة تقوم بحرق عجلات بشوارع العاصمة ، و فئة أخرى تبث أخبارا حول جماعة مسلحة تتوغل الحراك الشعبي،…لقد أرادوا أن يجعلوا أحلامه كوابيس مرعبة ، مثل تلك التي فتكت بأجزاء من شعوب المشرق العربي، و كانوا يذكروننا بسيناريوهات الأحداث التي شهدها الشارع السوري. كان ذلك بمنتصف شهر آذار/مارس من عام ألفان و احد عشر، حين خرج الكثير من المتظاهرين السوريين يحملون قائمة من المطالب بدأت بالمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين و فك الحصار عن الحريات وصولا إلى المطالبة بإسقاط النظام البعثي العربي الاشتراكي السوري الذي كان تحت قيادة بشار الأسد، و تطورت الاحتجاجات و المظاهرات إلى فكر اعتصامي مفتوح، و ساد الاعتصام اغلب المدن السورية مثل تلك التي أقيمت يوم الجمعة ” جمعة الغضب” بمدينة بانياس السورية ، يوم التاسع و العشرون من شهر نيسان/ابريل لعام آلفان و احد عشر حيث قامت القوات الأمنية و العسكرية النظامية بعمليات قمع و ردع عنيف للمدنيين على نطاق موسع ، و منذ ذلك الحين، تحولت مجريات الأحداث من مسيرات سلمية إلى اشتباكات مسلحة بين النظام البعثي و الجيش السوري الحر، …و أصبحت الفجوة بينهما عملاقة انتهت بإسكاتهم عسكريا ، و استعمال الأسلحة الثقيلة ،المدفعية السورية ، و السلاح الجوي العسكري، حيث بقيت المدن الشمالية السورية مثل حلب، الرقة، و ادلب تحت القصف المدعوم عسكريا من روسيا و جنوب لبنان تحت قيادة حزب الله، … و كحل نهائي لفكرة المسيرات السلمية ، فاز النظام البعثي السوري و بقي يحكم كما يريد، رغم أن القتال لا يزال مستمرا في عدد من الأرياف و المناطق مخلفا الآلاف من الضحايا و المتشردين اللذين هاجروا إلى تركيا، لبنان، الأردن، و عدد من دول اروبا الشرقية…
كانت هذه قصة المسيرة السلمية العربية و التجربة السورية التي قدموها كعبرة للشعب الجزائري كي يعيد التفكير فيما يفعله ، ” لا تنسوا أن سوريا بدأت بالورود و انتهت بالدماء” هكذا خاطب الوزير الأول احمد اويحي الشعب الجزائري. ربما اختلطت عليه الكثير من المعطيات المتشابهة ، أو كان تحت وطأة وهم ، متطلعا إلى قمع الشعب و إسكاته عسكريا، …مررنا بتجربة اشتباكات عسكرية- إرهابية قاسية جدا بالتسعينيات، راح ضحيتها الكثير من أبناء جلدتنا من الجنود ، سكان المداشر، القرى، و المدن الجزائرية ، و قد تضرر الشعب الجزائري كثيرا جراء التفجيرات و العمليات الانتحارية ، و لا احد من المتظاهرين الجزائريين يرغب في تكرار عقد من الزمن المخضب بدماء الجزائريين.
و جمعة الأسبوع التالي، و بعد صلاة الجمعة، أرسل الشعب الجزائري نجوى الظهيرة إلى رافع السموات و باسط الأرض و خالق ما بينهما بشريعة إلهية متناهية في الدقة ، …لقد أرسلوا دعوة إلى الله بأن ينصر هذا الشعب، و يرفع صوت الحق فوق كل شبر من هذه الأرض ،…كان الأمر بمثابة حرب ضد مناورات سياسية و تحديات شد الحبل الاقتصادي، .. الشعب الجزائري قد عرف كيف يصمم هويته الاقتصادية منذ عدة سنوات، فالبحبوحة المالية كانت جنة مثالية حيث اختصت بها الطبقة الحاكمة من سياسيين، رجال اقتصاد، حكوميين، برلمانيين، و مجموعة لا بأس بها من الدول افريقية التي استفادت من مسح ديونها المسجلة لدى الجزائر ، و حتى بعض الدول الاروبية التي كانت تعيش بذخ طاقوي على حساب الجزائريين الجائعين…و فجأة، تغير الوضع و أصيبت الخزينة الجزائرية بالسقم الذي أدى بعدة قطاعات إلى الجحيم، …و لقد أصدرت وزارة التجارة قائمة طويلة من المواد الممنوعة من الاستيراد مثل المنتجات الورقية، مواد التجميل، السيراميك، الزجاجيات، و السيارات على حد سواء؛ كإجراء مالي يتعلق بتحقيق التوازن في السوق الاستهلاكية – الإنتاجية ، ووجد الشعب نفسه اللبنة الأولى و الأساسية في بناء المفهوم الاقتصادي الحكومي و المتعلق بسياسة التقشف…هذه الجمعة، كان الشعب الجزائري مستعدا لكل شيء ، و لقد تجمع للمرة الثانية بكثافة عالية قرب مراكز البريد، الساحات العمومية، الجامعات ، و الحدائق، …لم يعد بوسع أي مؤسسة إعلامية إنكار هيمنة الشعب و لا بعثرة أوراقه الرابحة اليوم و غدا،…كانت المسيرة السلمية الثانية تؤكد عزم الجزائريين و كفاحهم في سبيل وطن بلا عصابة ، و رفعوا شعارات أكثر عمقا و أكثر جدية ، كانت شعارات داعية إلى التآخي ،التكتل ،و الوحدة بين رجال مؤسسات الدولة و قطاعاتها المختلفة و الشعب ؛ الكثير من رجال القضاء ، إعلاميين، مفكرين، أساتذة، رجال دين، و أطباء قد شرعوا بالانضمام إلى المسيرات السلمية، و جمعة ثالثة ، رابعة، خامسة، سادسة، سابعة، و ثامنة…كانت المسيرات الشعبية الحاشدة تنتصر.
كان حلم النظام يتهاوى، و جمعة تلو الأخرى، كان الشعب يجعل عددا منهم يتساقط…هذه المرة ، و بدولة عربية مسلمة، الحكومة تتساقط كأوراق الشجر ، و تتقلب بين الفينة و الأخرى، و تضطرب اضطرابا عشوائيا فضيعا، ثم يتلون كل ما هو حكومي بلون الخريف ؛ فمنهم من أوقفوه بأحد المطارات بجواز سفر مزور ، متوجها إلى مكان ما خارج الوطن، و منهم من يستقيل ويتراجع إلى الوراء، العديد من البرلمانيين ، الوزراء ، و المدراء اللذين قدموا استقالتهم ، و صولا إلى استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة…و عين مكانه رئيسا آخر يدعى عبد القادر بن صالح إلى حين إجراء انتخابات رئاسية.
لكنها ليست النهاية، فستتواصل المسيرات الشعبية السلمية بمختلف أنحاء الوطن، و سيصوم اغلب الجزائريين كل جمعة من شهر رمضان و هم يهتفون مجددا بصوت واحد حتى يغادر كل رجال و عملاء النظام السابق … ما حصل فعلا بعد أن قدم بوتفليقة استقالته ، هو مجرد متاهة وهمية جديدة قام بها النظام الذي لا يزال يدس رجاله خلف الكراسي و المناصب الحكومية الحساسة. إن الشعب الجزائري يمتلك من الوعي العميق ما يجعله يكشف لعبة تدوير وجوه النظام على الكراسي ، و لن يسمح الجزائري بأن يتعثر عقله الواعي و لا بصيرته الجماعية بسرب من الأوهام ، و لا بانجراف أفكاره خلف إعصار كاذب داخل فنجان رخامي منكسر يكشف النوايا و الترهات السياسية ، هذه الأوهام التي تمضي بين الشوارع الجزائرية العتيقة ، لا تلبث طويلا حتى تنقشع و تتبدد كسحابة تموز، ثم تغزو الشمس قلبه الذي يخفق لأجل وطنه و يجعل دماءه تتدفق بغزارة و اشتعال نحو الربيع.
بغضون عقل كل جزائري ، استقرت صحوة و يقظة فكرية جماعية منقطعة النظير، لقد سار فكر الملايين بطريق الفهم، الوعي، و الإدراك العميق ، مرددين الدعاء بالتوفيق،… و لا تزال المسيرات السلمية تقام كل جمعة، و لن يهزم شعب يقوده عقل ناضج و ريعان شبابي متحضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى